من اختاروا أن يرفعوا أعلام السعودية فى ميدان التحرير اختاروا طريق الوهابية واحتكروا السلف الصالح واختزلوه فى شيوخ الوهابية. وليس مصادفة أن يخرج تنظيم القاعدة من رحم الفكر الوهابى الإرهابى، وليس مصادفة أيضاً أن تتزامن هتافات الوهابيين فى التحرير مع دوىّ القنابل فى العريش بتنظيم وتخطيط فرع من تنظيم القاعدة، وليس مصادفة على الإطلاق هذا التواطؤ والصمت والطناش على تغلغل هذا التيار الوهابى السرطانى فى نسيج جسد الوطن.

ولنتخيل أن شهداء ثورة يناير يطلون علينا من العالم الآخر الآن ويرقبون مشهد جمعة طالبان فى ميدان تورا بورا «ميدان التحرير سابقاً» يوم 29 يوليو، ماذا سيقولون لنا عبر الأثير الشفاف النورانى؟ ماذا سيقول من استخدم أحدث وسائل العصر والعلم من شبكات تواصل وحوارات إنترنت فى إسقاط أخطر أنظمة القمع والقهر فى العالم؟ هل أهدرت دماؤه سدى من أجل أن يسلم الثورة التى تمت بآليات القرن الحادى والعشرين إلى أيدى أهل الكهف وعقليات زمن الديناصورات؟! هل من أدانوا الثورة وجرموا وحرموا الخروج على الحاكم وإن جَلَدك وألهب ظهرك، هم الآن من يرفعون أعلام الوهابية ويقودون الثورة فى طريق الجزيرة العربية عبر جسر ابن باز الملكى؟! أكاد ألمح دموع هذا الشهيد وهو يضرب كفاً بكف ويصرخ: يا خسارة يا ثورة.

إذا كان لكم أن تختاروا سلفكم الصالح محمد بن عبدالوهاب وابن باز وأسامة بن لادن، الذى صرختم تحية له «يا أوباما يا أوباما كلنا أسامة بن لادن» فهذا حقكم، ولكن من حقى أنا أيضاً كمسلم أن أختار سلفى الصالح من أئمة العقل والرأى والحجة والمنطق، من حقى أن يكون سلفى الصالح الشيخ محمد عبده والحسن بن الهيثم والشاطبى والطوفى وأئمة المعتزلة ومفكريها، منهم الجاحظ وابن خلدون وابن حزم وابن رشد ومحمود شلتوت وأمين الخولى وبنت الشاطئ والكواكبى والأفغانى والطهطاوى... إلى آخر كوكبة المجددين الأفذاذ فى تاريخنا الإسلامى.

من حقكم أن تغرقوا فى فتاوى تحريم شم النسيم ورضاع الكبير وبيع الجوارى وجواز أكل لحم الجان والعفاريت ورجم القرود الزانية وحمل الخمس سنوات والتداوى ببول الإبل، ولكن من حقنا أن نتعطر بآراء المجددين الذين يقولون بتغليب المصلحة على النص، وبإعلاء العقل على النقل، وتأويل النص إن تعارض مع العلم أو المصلحة، من حقنا أن نقرأ كيف ترجم المسلمون كتب اليونان واستفادوا من فلسفتهم أيام كان هناك عقل ومنطق وتحرر وحلم؟ من حقنا كمسلمين أن نقرأ عن بدايات العلم التجريبى عند الحسن بن الهيثم وجابر بن حيان وكيف طبقوا المنهج العلمى فى التفكير عملياً لا نظرياً فقط، وانتقلت عدواهم إلى أوروبا مع ابن رشد الذى اعتبره أعداء العقل وخفافيش الظلام خطراً على تجارتهم التى لن تبور فى ظل الجهل، ولن تسيطر فى وجود العقل، فحاربوا كل دعاة العقل حتى أصبحت لهم السيادة، فنام العقل العربى وارتفع صوت شخيره، وأغلق باب الاجتهاد والتجديد منذ ألف سنة، وصار التفكير بدعة وضلالة صاحبه فى قاع جهنم.

لكم أسلافكم الوهابيون ولى أسلافى المجددون المجتهدون العقلانيون وأنا فخور بهم، ولذلك سأبدأ من الغد سلسلة لقراءة رحلة العقل فى تاريخنا الإسلامى، العقل الذى كان.